على مدار السنوات الأربع الماضية، كثرت التكهنات بإرهاصات ميلاد نظام عالمي متعدد الأقطاب، سيجعل للصين فيه دورا كبيرا، ولذلك اتجهت العديد من الدول لتوطيد علاقاتها المتنوعة مع الصين، وإن كانت العلاقات التجارية والاقتصادية تصدرت أجندة العلاقات مع الصين، ولكن الأمر لا يخلو من دلالات سياسية، فالاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة.
ومن خلال هذه الرؤية، على ما يبدو انطلقت دول الخليج في زيادة تعاملاتها التجارية والاقتصادية مع الصين، إبان ولاية الرئيس الأميركي المنصرف جو بايدن، فوجدنا خطوات متقدمة من بعض الدول الخليجية، مثل إعلان وزير المالية السعودي، أن بلاده تدرس إمكانية بيع حصة من النفط بالعملة الصينية اليوان، وهو ما فسره البعض آنذاك، بأن توجه جديد للتخلي عن تسعير النفط بالدولار على الصعيد العالمي.
وإبان أزمة ارتفاع أسعار النفط في السوق الدولية، بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، توجه الرئيس الأميركي بايدن، غير مرة إلى “أوبك بلس” لرفع سقف الإنتاج، من أجل خفض الأسعار، ولكن أصرت “أوبك بلس” على نهجها بخفض سقف الإنتاج، من أجل الحفاظ على الأسعار.
وقد عكست هذه المشاهد حالة من التحول في العلاقات الأميركية الخليجية، قرأها البعض بأنها مرحلة جديدة، تعكس التغير في موازين القوى العالمية، وانحيازا لمشهد نظام عالمي جديدة في طور التشكيل، وأن ثمة تحول خليجي تجاه الصين.
إلا أن الجديد الآن، وبعد عودة دونالد ترامب للسلطة بأميركا في 20 يناير/كانون الثاني 2025، تبعه أمور جديدة قد تؤثر على مسار تطور العلاقات التجارية والاقتصادية لدول الخليج مع الصين، بحيث تجعلنا نتوقع تراجع هذه العلاقات بشكل كبير، ويتم تحويلها لصالح أميركا.
فقبل تولي ترامب السلطة رسميا بأيام، أعلن رجل الأعمال الإماراتي حسين سجواني أنه سوف يستثمر 20 مليار دولار في أميركا، في قطاع مراكز البيانات. وبعد تولي ترامب السلطة أُعلن عن عزم السعودية ضخ استثمارات في أميركا بنحو 600 مليار دولار، وصرح ترامب في كلمته أمام منتدى دافوس، أنه سيطلب من الملك السعودي زيادة المبلغ إلى تريليون دولار.
كما أعلن محمد الحردان ممثل جهاز استثمار قطر بقطاع التكنولوجيا في منتدى دافوس مؤخرا، أن ترامب سوف ينعش الاستثمار في قطاع التكنولوجيا، وهو ما يعني استعداد بلاده لضخ استثمارات في هذا القطاع خلال الفترة المقبلة.
ويعول ترامب بشكل كبير على قيام الشركاء بزيادة حصصهم بشراء المنتجات الأميركية، وبخاصة السلاح، أو نقل الاستثمارات إلى أميركا، والمعلوم أن دول الخليج تعد أكبر مشتر للسلاح في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يعني أن شراء السلاح الأميركي من قبل دول الخليج، قد يكون أحد المنافذ المهمة، لزيادة المعاملات التجارية والاقتصادية بين الطرفين.
وقد يمتد الأمر إلى المطالبة بتوظيف أرصدة الصناديق السيادية الخليجية، في شراء السندات الأميركية، في ظل تخارج الصين منها على مدار السنوات الماضية، بشكل لافت للنظر، كما قد يكون المسار الآخر ضخ استثمارات خليجية في أنشطة اقتصادية أخرى داخل أميركا، وبخاصة أن ترامب أعلن عن إستراتيجيته بتوسع الاستثمارات في قطاع النفط والغاز داخل أميركا.
والجدير بالذكر أن أرصدة الصناديق السيادية الخليجية، قد تقترب من 4 تريليونات دولار بنهاية 2024، وهي ورقة جيدة لتوظيف علاقات دول الخليج مع كافة الأطراف الخارجية، وخلال السنوات الأربع القادمة، سوف نرى، اتجاه استثمارات هذه الصناديق، وهل سينجح ترامب في تحول وجهتها لأميركا، وانصرافها عن الصين؟
مصير اتفاقية منطقة التجارة الحرة
وحسب ما نشر بوسائل الإعلام بنهاية ديسمبر/كانون الأول 2024، فإن اتفاق منطقة التجارة الحرة بين دول الخليج والصين، قد وصل إلى المراحل النهائية، وهو ما يعني أن العلاقات التجارية والاقتصادية بين البلدين، سوف تأخذ اتجاها أكثر إيجابية مما هو عليه، حيث إن مفاوضات الطرفين حول هذه الاتفاقية قد استغرق ما يزيد عن عقدين من الزمن، ولكن الاتفاقية لم توقع بعد.
وقد بلغت قيمة التبادل التجاري بين الصين ودول الخليج آخذة في التزايد بشكل كبير، ففي عام 2014 كانت قيمة التبادل التجاري بينهم بحدود 182 مليار دولار، وصعدت إلى 228 مليار دولار في عام 2021، وذلك حسب أرقام المركز الإحصائي لدول الخليج، بينما المصادر الصينية تظهر أن قيمة التبادل التجاري بين الطرفين بلغت 287 مليار دولار بنهاية 2023، وتستحوذ السعودية على نحو 40% من قيمة التبادل التجاري لدول الخليج مع الصين.
وقد لوحظ أن العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الطرفين، قد سيطر عليها تجارة النفط بشكل كبير، وإن كانت بعض دول الخليج تعول على جذب الاستثمارات الصينية إليها، وبخاصة في السعودية، عبر مشروعها الكبير “نيوم”.
وحسب البيانات الخاصة للتبادل التجاري بين الطرفين خلال الفترة 2014–2021، فإن الميزان التجاري كان يميل لدول الخليج إبان تحسن أسعار النفط، بينما في السنوات التي تراجعت فيها أسعار النفط في السوق الدولية، أظهر الميزان التجاري فائضا لصالح الصين، كما هو الحال في أعوام (2015، 2016، 2017، 2020).
ويعول بشكل كبير على اتفاقية منطقة التجارة الحرة لزيادة العلاقات الاقتصادية والتجارية بين دول الخليج والصين، حيث ينتظر أن تدخل هذه الاتفاقية العديد من الأنشطة الاقتصادية لإطار التعاون الاقتصادي، مثل الخدمات والتكنولوجية والذكاء الاصطناعي والروبوتات.
وفي ضوء التجربة القريبة، لعلاقة الاتحاد الأوروبي بالصين، حيث أبرم بينهما اتفاق مبدئيا للاستثمار قبل عام 2020، وكان على وشك الدخول لحيز التنفيذ، ولكن مع مجيء بايدن وتحسين علاقاته مع الاتحاد الأوروبي، نجح في تجميد هذا الاتفاق، وكأنه لم يكن.
فهل سيكرر ترامب نفس التجربة لعلاقة دول الخليج مع الصين، بشأن مفاوضات اتفاقية التجارة بشكل خاص، والعلاقات التجارية والاقتصادية بشكل عام؟
واللافت للنظر أن بايدن قدم للاتحاد الأوروبي مزايا تجعله يجمد اتفاقه للاستثمار مع الصين، والسؤال هو ماذا يمكن أن يقدم ترامب لدول الخليج، من أجل أن تقوم بتقليص علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع الصين، أو تجميد مفاوضات اتفاق منطقة التجارة الحرة؟
إستراتيجية الصين
بلا شك أن العلاقات الدولية لا تترك لطرف واحد يحدد مساراتها، ولكنْ هناك آخرون، يسعون لتحقيق مصالحهم، وهنا تبرز الصين، ومن المهمة معرفة توجهها لعلاقاتها مع دول الشرق الأوسط، والتي تشمل دول الخليج.
فقد ذهبت أحد التحليلات المنشورة بمجلة السياسة الدولية -تصدرها مؤسسة الأهرام بالقاهرة- إلى أن أمام الصين سيناريوهين حول علاقتها بدول الشرق الأوسط مع مجيء ترامب للسلطة في 2025، الأول تعزيز الوجود الصيني، من خلال زيادة العلاقات التجارية والاقتصادية، ومشروعات البنية الأساسية في إطار مشروع طريق الحرير، إلا أن احتمالية فشل هذا السيناريو أكثر من نجاحه، حسبما ذهب الكاتب، وذلك بسبب حالة التحالف القائمة بين دول الشرق الأوسط وأميركا.
والسيناريو الثاني هو التهدئة والتوازن في علاقة الصين بدول المنطقة، وربما الانسحاب المحسوب، مع الحفاظ على العلاقات التجارية والاقتصادية، حتى لا تخسر الصين علاقاتها بدول المنطقة، على أن تكون هذه الحالة مرهونة فقط بفترة وجود ترامب في السلطة.