الخليل – في قلب الضفة الغربية، تقف الخليل شامخة بتاريخها الصناعي والتجاري والزراعي، لكنها اليوم تُحاصر من جميع الاتجاهات، وتغرق تحت وطأة حرب اقتصادية موازية لتلك التي تشنّها قوات الاحتلال على الأرض.
وفي محافظة تُشكل ثلث الضفة الغربية مساحة وسكانا، وتُعدّ الأولى وطنيا من حيث عدد المنشآت الاقتصادية، باتت الحياة الاقتصادية تتراجع أمام تصعيد غير مسبوق، يتمثل في حصار خانق، وتدمير للبنية الإنتاجية، ومصادرة الأراضي، واقتلاع الأشجار، وقطع أوصال المحافظة بحواجز عسكرية لا تُحصى.
الخليل.. عصب الاقتصاد الوطني
ولطالما كانت الخليل تُوصف بأنها “قلعة الاقتصاد الفلسطيني”، وهو ما أكده الخبير الاقتصادي طارق التميمي في حديثه لـ”الجزيرة نت”، حين أشار إلى أن هذه المحافظة تسهم بـ40% من الناتج المحلي الفلسطيني، وتحتضن 45% من الصناعة الفلسطينية.
وكان الزائر لهذه المدينة يعتاد على مشهد الشاحنات الضخمة التي لا تتوقف عن الدخول والخروج، حاملة معها منتجات الصناعات الغذائية، ومشغولات الحرف اليدوية، وأصناف الحجر والخزف والجلد.
وإلى جانب كونها مركزا صناعيا نشطا، تزخر الخليل بأسواقها القديمة التي تُعدّ من أبرز معالمها السياحية والاقتصادية، لا سيما البلدية القديمة التي تضم الحرم الإبراهيمي الشريف، إلا أن هذه الميزة سرعان ما تصطدم بواقع الاحتلال.
ويُعلق عبدو إدريس، رئيس غرفة تجارة وصناعة الخليل ورئيس اتحاد الغرف التجارية في الضفة، على هذا المشهد قائلا إن البلدة القديمة تعاني من إغلاق ألف متجر منذ 20 عاما، بينها 512 متجرا أُغلقت بأوامر عسكرية، فضلا عن شوارع كاملة مُغلقة أمام حركة السكان والتجار.

العمود الفقري للاقتصاد الفلسطيني
وتُشكّل التجارة، والصناعة، والزراعة ركائز الاقتصاد الخليلـي. وأوضح مهيب الجعبري، مدير مكتب وزارة الاقتصاد الوطني في الخليل، لـ”الجزيرة نت” أبرز المقومات الاقتصادية التي تحظى بها المحافظة:
- وجود 24 ألف وحدة تجارية و3500 منشأة صناعية داخل المحافظة.
- تُعد الخليل الأعلى من حيث الثروة الحيوانية، إذ تضم نحو 15 ألف رأس بقر، إلى جانب وجود أكبر مصنعين للألبان.
- عدد من مصانع البلاستيك، أحدها يشغّل أكثر من 700 عامل.
- تضم المحافظة 4 مصانع للفرشات تُصدّر إنتاجها للأسواق الإقليمية.
- مصانع الحجر التي تتميّز بها الخليل.
- صناعة الذهب والمجوهرات التي تحوز 85 مشغلا تنتج ما يزيد على 70% من الذهب المتداول في السوق الفلسطيني.
- أكبر مصنع للحديد في فلسطين.
- مصنع للورقيات وهو الوحيد في فلسطين.
- أكبر مصنع للأعلاف الحيوانية.
ولا تُذكر الخليل دون الإشارة إلى صناعاتها التقليدية، مثل صناعة الزجاج، والخزف، والسيراميك، والجلود، والأحذية، وهي صناعات تستقطب السياح الفلسطينيين والعرب والأجانب. وقد وصل عدد الزائرين إلى نصف مليون سائح سنويا قبل الحرب، إلى جانب الرحلات المدرسية والجامعية، وزيارات أهالي مناطق 1948.

سيف الحواجز والمقاصة يهدد الإنتاج
ويعيش القطاع الخاص الفلسطيني تحت حصار فعلي بفعل 900 حاجز عسكري تقطّع أوصال الضفة الغربية، بحسب عبدو إدريس.
هذا الواقع أدى إلى ارتفاع تكاليف النقل، وتعطّل سلاسل التوريد، وصعوبة إدخال المواد الخام والسلع الغذائية، ما انعكس على ارتفاع الأسعار وتآكل القوة الشرائية.
ويُضيف إدريس: “انخفض عدد الشاحنات القادمة من معبر الكرامة الحدودي مع الأردن بنسبة 50%، في ظل أزمات المقاصة مع الجانب الإسرائيلي، وعجز السلطة عن سداد ديون القطاع الخاص التي تبلغ مليارات”.
ويتابع الجعبري أن الخليل وحدها تعاني من وجود 120 حاجزا عسكريا داخل المدينة، فضلا عن البوابات التي تفصلها عن باقي المدن الفلسطينية.
وقد أدى هذا الوضع إلى ارتفاع تكاليف النقل بنسبة 6%، وارتفاع أسعار السلع بنسبة 2%، ما ضاعف من الأعباء الاقتصادية على التجار والمواطنين على حد سواء.

انهيار قطاعات كاملة
وتُظهر البيانات الاقتصادية لمكتب وزارة الاقتصاد الوطني تراجعا مقلقا في القطاعات الحيوية للخليل، ويمكن تلخيصها كما يلي:
- قطاع البناء والتشييد انخفض بنسبة 50%.
- قطاع الصناعة تراجع بنسبة 34%
- قطاع الخدمات هبط بنسبة 33%
- وتراجع قطاع الاتصالات بنسبة 16%.
- أما الزراعة، التي تشتهر بها الخليل، فقد تراجعت بنسبة 28%، مع انخفاض ملحوظ في محاصيلها الأساسية كالعنب والزيتون والتين واللوز.
- السياحة الداخلية تراجعت بنسبة 80%، بعدما كانت واحدة من الروافد الداعمة لاقتصاد المحافظة.
وتعرّض عدد من المصانع والمتاجر لاعتداءات مباشرة من جيش الاحتلال، من بينها مصنع للأحذية صادر الاحتلال معداته بالكامل، وتدمير منشآت لتجميع الخردة في بلدة إذنا وهذا أدى إلى خسائر تزيد على مليون شيكل (نحو 300 ألف دولار)، فضلا عن إغلاق 100 متجر في شارع الرماضين الحيوي في الظاهرية، وتدمير محلات للصرافة ومطابع تجاوزت خسائر إحداها مليون شيكل.
معبر ترقوميا.. عقدة في شريان التجارة
معبر ترقوميا التجاري، المخصص لمنطقة جنوب الضفة الغربية، يُفترض أن يكون شريانا حيويا لنقل البضائع من وإلى المحافظة. لكن الواقع يشير إلى تعقيدات متزايدة. تقول زهرة الصغير، مديرة شركة العراب للتدقيق والمحاسبة، إن الاحتلال يغلق المعبر معظم أيام الأسبوع، وعند فتحه لا يعمل إلا لساعات محدودة وبعدد قليل من الموظفين، وهذا يتسبب بتكدّس الشاحنات وتكبيد التجار تكاليف إضافية، بما في ذلك رسوم أرضيات الموانئ.
وتوضح الصغير أن التجار لجؤوا إلى طرق التفافية لتجنب حجز بضائعهم، ما يحرمهم من الحصول على ختم المعبر أو البيان الجمركي، وهما شرطان أساسيان لحصول السلطة الفلسطينية على الجمارك، ما يُهدد بإلزام التاجر بدفع الرسوم مرتين. كما يعاني التجار من تراجع السيولة، وتزايد الديون، ما يدفعهم لإغلاق محلاتهم أو تقليص عدد العمال.

الجلود الفلسطينية تفقد أسواقها الخارجية
وتشتهر الخليل بصناعة الأحذية والجلود، وهي صناعة بدأت تصديرها منذ عام 2000، وتُعد علامة جودة باسم “شغل الخليل”. يقول عامر عرفة، رجل أعمال ورئيس اتحاد الصناعات الجلدية، إن إنتاج الصناعات الجلدية تراجع بنسبة 30%، وتوقف التصدير إلى قطاع غزة الذي يُمثل 15% من الإنتاج، وهذا أدى إلى توقف عدد من المصانع.
كما أشار إلى أن المبيعات في سوق الداخل الفلسطيني انخفضت بنسبة 60%، إلى جانب تعمّد المستهلك الإسرائيلي مقاطعة المنتجات الخليلية. وأدى تزايد الشيكات المرتجعة من الوكلاء الإسرائيليين إلى فقدان الصناعيين حقوقهم من دون حماية قانونية.

صناعة الذهب والمجوهرات.. موسم بلا أرباح
في حين وصف رئيس الاتحاد الفلسطيني للمعادن الثمينة، المهندس محمد غازي الحرباوي الوضع الاقتصادي بأنه الأسوأ على الإطلاق.
وأكد الحرباوي أن قطاع الذهب تراجع بشكل كبير رغم دخول موسم الصيف والمناسبات، التي تُعد عادة ذروة الأرباح، والتي لم تتجاوز هذا العام 30% إلى 40%.
ويضيف الحرباوي أن التنقل داخل الضفة بات يتطلب 4 إلى 5 ساعات إضافية يوميا، بسبب الحواجز والطرق الالتفافية، وهذا أدى إلى ارتفاع تكلفة الشحن بنسبة 30%.
كما أن عدم انتظام صرف الرواتب الحكومية زاد من ضعف القدرة الشرائية. وبرغم كل ذلك، يؤكد الحرباوي أن مجتمع الأعمال في الخليل لا يزال صامدا، ومتمسكا بالأمل بانتهاء الحرب وعودة الحياة الاقتصادية تدريجيا إلى مسارها الطبيعي.