تبدو العلبة الحمراء الزاهية بسعة 250 ملليترا مثل علبة كوكاكولا، إذ استُبدلت “كوكا” بـ”غزة” فصارت “كولا غزة” وزُينت بعلم فلسطين وكوفية حمراء حتى إن مذاقها يشبه الكولا، لكنه أقرب إلى النكهات الحلوة لمشروبات الكولا غير الكلاسيكية.
وتهدف “كولا غزة” إلى أن تكون بديلا لمقاطعي العلامة التجارية الشهيرة وليست مجرد محاولة لتقليد “كوكاكولا”.
مقاطعة واسعة
وفي تقريرها الذي نشرته مجلة (تايم) البريطانية، قالت الكاتبة ياسمين سرحان إنه منذ أن شنت إسرائيل حربها على قطاع غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول، الذي أسفر عن استشهاد عشرات الآلاف من الفلسطينيين وجعل معظم قطاع غزة غير صالح للسكن، تعرضت أكثر من 12 شركة متعددة الجنسيات تُعتبر داعمة لإسرائيل لحملة مقاطعة واسعة من قبل المستهلكين على مستوى العالم.
ومن بين هذه الشركات، شركة كوكاكولا التي تدير مصنعا في الضفة الغربية المحتلة، وماكدونالدز التي قدم صاحب امتيازها في إسرائيل وجبات مجانية لجنود جيش الاحتلال وقوات الإنقاذ بعد عملية طوفان الأقصى، وستاربكس التي رفعت دعوى قضائية ضد نقابة عمالها بسبب منشور على وسائل التواصل الاجتماعي أُزيل لاحقا عبّر عن دعم الفلسطينيين.
وفي الوقت نفسه، أفسحت هذه الشركات المجال لعلامات تجارية جديدة وأخرى قائمة لتملأ الفراغ الذي تركته الشركات الكبرى متعددة الجنسيات، وفق المجلة البريطانية.
وأوضحت الكاتبة أن كولا غزة، التي دخلت السوق البريطاني هذا الشهر، وتعد من البدائل الجديدة المتاحة، وتُعتبر شركة (فلسطين درينكس)، وهي علامة تجارية مقرها السويد تم إطلاقها في مارس/آذار وتزود الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وجنوب أفريقيا، ببديل آخر.
ونقلت المجلة عن محمد كسواني، مدير الاتصالات في شركة صفد للأغذية (الشركة الأم المالكة للعلامة التجارية فلسطين درينكس)، قوله إن الطلب على مشروبات الصودا كان هائلا، مشيرا إلى أن شركته لم تكن تتوقع أن تلقى هذا الإقبال الكبير، إذ باعت العلامة التجارية ما يقارب 16 مليون علبة في الأشهر الخمسة الماضية.
وتذهب عائدات المبيعات إلى مشاريع تدعم المجتمع المدني الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة.
وذكر الكسواني أن الهدف من هذه المبادرة ليس متعلقا بالمشروبات الغازية في حد ذاتها، قائلا “لا نبيع المشروبات. نحن نبيع العلامة التجارية (فلسطين) لنجعل الناس يتحدثون أكثر عن الإبادة الجماعية الجارية”.
وفي قرار تاريخي صدر في يناير/كانون الثاني، أصدرت محكمة العدل الدولية حكما مؤقتا يقضي بأن ثمة خطرا معقولا بارتكاب إسرائيل إبادة جماعية في غزة لكن صدور حكم نهائي قد يستغرق سنوات.
الشارع العربي
وعلى الرغم من أن هذه المقاطعة ذات طابع دولي، فإنها تتجلى بشكل خاص في الشارع العربي، ففي الأردن، على سبيل المثال، صارت محلات ماكدونالدز وستاربكس التي كانت تعج بالزبائن قبل عام واحد فقط فارغة تقريبا.
وبينما لا يزال بالإمكان إيجاد منتجات مثل كوكاكولا وبيبسي على رفوف محلات البقالة في الشرق الأوسط، فإنها غالبا ما تُعرض بجانب لافتات تحث الزبائن على مقاطعتها، وفق المجلة البريطانية.
وتجنبت العديد من المقاهي والمطاعم في المنطقة إلى حد كبير هذه العلامات التجارية، مفضلة بدائل محلية مثل (ماتريكس كولا) الأردنية و(كنزا) السعودية، خشية أن تصبح هي نفسها عرضة للمقاطعة.
وأشارت الكاتبة إلى أن حملات المقاطعة الدولية ضد إسرائيل ليست جديدة بل تعود إلى سنوات عديدة، فمنذ عام 2005، تقود حركة فلسطينية شعبيّة الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها مع التركيز على الشركات الإسرائيلية والدولية التي يُعتقد أنها متواطئة في انتهاك حقوق الفلسطينيين.
مقاطعة مفيدة
ونشأت، كذلك، علامات تجارية جديدة تسعى إلى الاستفادة من هذه المقاطعة، وخلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، في أوائل الألفية الجديدة بعد انهيار عملية أوسلو للسلام التي بدأت في مطلع تسعينيات القرن الماضي، ظهرت علامات تجارية مثل (مكة كولا) و(كولا القبلة) كبدائل لمشروب الكولا.
وتم تسويق (مكة كولا) نفسها ضمن جزء من مقاطعة أوسع للبضائع الأميركية بسبب دعم واشنطن لإسرائيل، في حين وصفت (كولا القبلة) نفسها كبديل أخلاقي للمسلمين الذين يتساءلون بشكل متزايد عن دور بعض الشركات الكبرى متعددة الجنسيات في مجتمعاتهم.
وعادة ما أعقبت مقاطعة المستهلكين معظم حروب غزة، بما في ذلك الحروب التي جرت في الأعوام 2008-2009، و2012، و2014، و2018، و2021، لكن الوضع الحالي يختلف عن الحروب السابقة؛ فبينما كانت تلك الحروب تستمر لعدة أيام أو أسابيع في كل مرة، فإن الحرب الحالية دخلت شهرها الـ11، ولا يبدو أنها تقترب من النهاية في الوقت الراهن، وفق المجلة.
وحسب ويل تودمان، محلل شؤون الشرق الأوسط في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، الذي أمضى بعض الوقت في الأردن والمغرب وعمان وتونس وقطر منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، فإن حملة المقاطعة هذه تحدث على نطاق مختلف تماما عن أي شيء سابق ذلك لأن هذه الحرب تحدث على نطاق أكبر وأكثر فظاعة من أي شيء من قبل.
دفاع بلا تأثير
حاولت بعض الشركات المتضررة الدفاع عن نفسها، وإن لم يكن ذلك دائما ذا تأثير يُذكر، وقد أدت محاولة صاحب امتياز شركة كوكاكولا في بنغلاديش إلى نتائج عكسية بعد أن أطلق حملة إعلانية تطمئن العملاء بأنها ليست علامة تجارية إسرائيلية.
واستخدم الإعلان، الذي أُزيل من جميع المنصات، جملة “حتى فلسطين فيها مصنع كوكاكولا”، والمصنع المعني هو مصنع كوكاكولا مملوك لصاحب امتياز إسرائيلي وقد أنشئ في مستوطنة إسرائيلية غير قانونية بموجب القانون الدولي في القدس الشرقية.
في الوقت نفسه، سعت شركة ماكدونالدز، التي يقع مقرها الرئيسي في شيكاغو، إلى النأي بنفسها عن تصرفات صاحب الامتياز الإسرائيلي، فقالت في فبراير/شباط الماضي إن دعم جيش الاحتلال “تمت بشكل مستقل من دون موافقة أو تأييد من ماكدونالدز”.
وقالت سلسلة مطاعم البرغر لاحقا إنها ستعيد شراء جميع مطاعمها في إسرائيل بعد اتفاق مع صاحب الامتياز الإسرائيلي (ألونيال).
ونقلت المجلة البريطانية عن عمر البرغوثي، أحد مؤسسي حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل، “لقد أظهرت حركة المقاطعة للشركات المتواطئة أن الثمن الذي يجب أن تدفعه لتورطها في جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين باهظ وسيزداد فداحة”.
وتشير هذه الاتجاهات إلى أن تأثير المقاطعة على هذه العلامات التجارية سيكون على الأرجح “طويل الأمد” مشيرا إلى أن فعالية الحركة كانت في صالح البدائل المحلية، خاصة في الشرق الأوسط.
المآلات
ووفق المجلة البريطانية، فإن ثمة مراقبة لما ستؤول إليه هذه المقاطعة على المدى المتوسط على مستوى سلوك المستهلكين، وفي حين أنها أعطت العديد من المتضررين من الكارثة الإنسانية المستمرة في غزة إحساسا بالقدرة على التأثير.
وقال الكسواني، الذي يتذكر المقاطعات التي ظهرت خلال حروب غزة السابقة، إنها اتبعت جميعها النمط نفسه “كان ثمة مقاطعة قوية استمرت لبضعة أشهر، ثم انتهت بعد ذلك”، لكنه واثق من أن هذه المقاطعة لن تنتهي كسابقاتها، فأضاف “هذه المرة، يمكننا أن نرى أن المقاطعة أكبر بمئات المرات..”.
ونقلت المجلة عن الخبير في تأثير المقاطعة في كلية كيلوغ للإدارة في جامعة “نورث ويسترن” الأميركية، برايدن كينغ، قوله إن معظم حملات المقاطعة ليس لها تأثير كبير على سلوك المستهلك على المدى الطويل، في حين الحملات التي تفعل ذلك قادرة على الاستفادة من المسؤولية العامة لصالحها، فيحاسب الناس بعضهم بعضا، وهي مهمة تصبح أسهل عندما يتعلق الأمر بالسلع التي يتم الاستمتاع بها عادة في البيئات الاجتماعية مثل الطعام والشراب.
ولكن ثمة مؤشرا آخر على المقاطعة الفعالة، وهي القدرة على إلحاق ضرر مستدام بسمعة العلامة التجارية، وعلى الرغم من تلاشي معظم المقاطعات بعد مرور 90 يوما، وفقا لكينغ، فإن المقاطعة المستلهمة من غزة تجاوزت ذلك منذ فترة طويلة، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن الحرب قد تجاوزت ذلك أيضا.
ويقول كينغ “الغضب الذي يشعر به كثيرون في العالم حيال هذا الأمر شديد للغاية، ولا يبدو أنه تبدد على الإطلاق، ويرجع ذلك جزئيا إلى استمرار هذه المأساة. وتوقع أن الضرر الذي سيلحق بسمعة العلامات التجارية المرتبطة بهذا الأمر سيكون أكبر بكثير.