توفي عالم الآثار باري كيمب، الذي ساهم على مدى عقود من التنقيب المضني في العاصمة المهجورة لفرعون غامض في إحداث ثورة في فهم كيفية معيشة المصريين القدماء اليومية وعملهم وعبادتهم، في 15 مايو/أيار في كامبريدج ببريطانيا، بعد يوم واحد من عيد ميلاده الرابع والثمانين.

وأعلن مشروع تل العمارنة، وهو مؤسسة أثرية غير ربحية كان السيد كيمب مديرها، عن الوفاة. ولم يحدد المشروع سبب الوفاة أو مكان وفاته.

منذ اللحظة التي وصل فيها للتدريس في جامعة كامبريدج عام 1962، بعد تخرجه مباشرة من الجامعة، أصبح السيد كيمب ظاهرة. فعندما كان في السادسة والعشرين من عمره فقط، نشر مقالاً في مجلة الآثار المصرية، والذي أحدث تحولاً كبيراً في المناقشة حول مجموعة من الهياكل الجنائزية التي يعود تاريخها إلى حوالي 3000 قبل الميلاد، حيث أظهر أنها كانت على الأرجح أسلاف الأهرامات.

ولكن الكثير من أعماله لم تكن لها علاقة بالفراعنة. وكان من أوائل من طبقوا أسئلة التاريخ الاجتماعي، التي يستكشف فيها العلماء حياة الناس العاديين في الماضي، على مصر القديمة.

“ما أردت القيام به هو تطبيق أساليب الحفر الحديثة والأبطأ حتمًا والدراسة بهدف معرفة المزيد عن حياة المدينة”، هذا ما قاله لمجلة Humanities في عام 1999. “إن اهتمامي ينصب بشكل أكبر على قوة علم الآثار في الكشف عن الجوانب الأكثر أساسية في المجتمع”.

إن من يزور السيد كيمب في الميدان يجد عالم آثار من فريق العمل المركزي: طويل القامة وقوي البنية، وله لحية كثيفة وبشرة سمراء داكنة دائمة. وكان معروفاً باهتمامه الشديد بالتفاصيل، والبحث عن أدلة دقيقة ـ براغيث متحجرة، وعينات من الملابس، وحتى بقايا بيرة عمرها ثلاثة آلاف عام، ساعد السيد كيمب في إعادة هندستها، ثم تخميرها، في عام 1996. (قال أحد زملائه إن مذاقها يشبه شراب شاردونيه الشعيري).

وفي مجال واسع مثل علم المصريات، حيث يتعين على العلماء بالضرورة أن يركزوا تحقيقاتهم بشكل ضيق، كان السيد كيمب عالماً عاماً، قادراً على جلب رؤى جديدة لمجموعة من المجالات الفرعية.

وفي مقابلة هاتفية، قالت لوريل بيستوك، عالمة الآثار بجامعة براون والتي عملت معه في هذا المجال: “كان مجرد واحد من كبار العلماء، بطريقة لم يعد لدينا علماء في هذا المجال بعد الآن. إن أعماله تمس كل ركن من أركان علم المصريات”.

بين الرحلات الميدانية، أنتج مجموعة من الأوراق البحثية والمقالات الصحفية والكتب، بما في ذلك “مصر القديمة: تشريح حضارة”، الذي ظهر لأول مرة في عام 1989 وقام بمراجعته بدقة في طبعتين لاحقتين؛ ويظل كتابًا مطلوبًا للقراءة لأي شخص مهتم بعلم المصريات.

يرتبط السيد كيمب ارتباطًا وثيقًا بموقع يسمى تل العمارنة، على بعد حوالي 200 ميل جنوب القاهرة، بعيدًا عن ما يراه معظم السياح عندما يأتون لاستكشاف بقايا مصر القديمة.

كانت تل العمارنة عاصمة الصحراء التي بناها الفرعون أخناتون، الذي تولى العرش عام 1353 قبل الميلاد. وقد مارس شكلاً مبكراً من التوحيد، وعبد إله الشمس أتون، وقد جر معه ما يصل إلى 50 ألفًا من رعيته لبناء المدينة.

كانت تل العمارنة تمتد على مساحة سبعة أميال وعرض ثلاثة أميال، وكانت محاطة بالقصور والمعابد، وكان أحدها معبد آتون العظيم، الذي بلغ عرضه نصف ميل. ولكن افتقارها إلى المياه الصالحة للشرب، وعدم شعبية أخناتون بعد وفاته في حوالي عام 1335 قبل الميلاد، دفع المصريين إلى الفرار شمالاً، تاركين تل العمارنة إلى الصحراء.

وبسبب موقعها المخيف، نجت تل العمارنة من مصير المواقع الحضرية في الشمال، والتي تعرضت للنهب والبناء. وتعتبر نسخة مصرية من بومبي، المدينة الرومانية التي تجمدت في الزمن بعد دفنها في الرماد البركاني في عام 79 م.

وكانت تل العمارنة أيضًا مكانًا مثاليًا لإجراء تحقيق مثل تحقيق السيد كيمب في حياة المصريين العاديين.

للوهلة الأولى، تحكي قصورها ومعابدها قصة ثروات وفيرة. ولكن على مر العقود، اكتشف هو وفريقه مقابر وورش عمل وقرى كشفت عن قصة أكثر كآبة: قصة الناس العاديين، بما في ذلك العبيد، الذين عملوا وماتوا لجعل كل هذا الروعة ممكنًا.

لم تكن مصر القديمة مكانًا رائعًا للعمال، لكن تل العمارنة النائية التي كانت تحرقها أشعة الشمس كانت وحشية بشكل خاص. فقد مات معظم العمال بسبب سوء التغذية وإصابات العمود الفقري والطاعون في أوائل العشرينيات من عمرهم.

وفي عام 2008، قال السيد كيمب لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي): “إن العظام تكشف عن جانب مظلم من الحياة، وهو انقلاب مذهل للصورة التي روج لها أخناتون، والتي تدور حول الهروب إلى ضوء الشمس والطبيعة”.

وُلِد باري جون كيمب في 14 مايو 1940 في برمنغهام بإنجلترا. كان والده، إرنست، بائعًا متجولًا، وكانت والدته، نورا (لوليس) كيمب، مسؤولة عن إدارة المنزل.

خدم والده في مصر مع الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية، وكانت البطاقات البريدية والصور الفوتوغرافية للأهرامات والقصور التي أرسلها إلى المنزل مصدر إلهام لاهتمام ابنه المبكر بعلم الآثار.

درس السيد كيمب علم المصريات واللغة القبطية في جامعة ليفربول وتخرج منها عام 1962، وهو العام نفسه الذي بدأ فيه التدريس في كامبريدج، حيث قضى حياته المهنية بالكامل. وحصل على درجة الماجستير في علم المصريات من كامبريدج عام 1965.

انتهت زيجاته الأولى والثانية بالطلاق. وقد ترك زوجته الثالثة، ميريام بيرترام، عالمة المصريات التي عمل معها عن كثب؛ وبناته نيكولا ستوكروفت، وفيكتوريا كيمب، وفرانسيس دوهيج؛ وحفيدتين؛ وحفيدة واحدة.

قام السيد كيمب بأول رحلة له إلى تل العمارنة في عام 1977، وعاد إليها كل عام حتى عام 2008. وحتى بعد أن تباطأ، واصل رحلاته إلى الموقع قدر استطاعته.

وقد لخص الكثير من عمله الميداني في كتابه الصادر عام 2012 بعنوان “مدينة أخناتون ونفرتيتي: تل العمارنة وشعبها”. وكان لديه الكثير ليقوله، وفي حين ظل معظم ما قاله ضمن حدود الخطاب الأكاديمي، فقد كان لديه تحذير واحد للحكام المستبدين المحتملين مثل أخناتون.

“إن خطر أن تكون حاكماً مطلقاً،” كما كتب، “هو أن لا أحد يجرؤ على أن يقول لك إن ما قررته للتو ليس فكرة جيدة.”

شاركها.
Exit mobile version