يمثل قطاع الصيد البحري شريان الحياة في جزيرة غرينلاند، وعنصرا لا يمكن الاستغناء عنه في ثقافة الإنويت العريقة. فرغم الظروف المناخية القاسية والمساحات الشاسعة، يعتمد الكثير من السكان على خيرات البحر بشكل مباشر أو غير مباشر.
ويُعد هذا القطاع الركيزة الأساسية للاقتصاد الوطني، إذ تمثل صادرات المأكولات البحرية أكثر من 90% من إجمالي صادرات غرينلاند، كما يوفر فرص عمل حيوية للمجتمعات الساحلية المنتشرة على أطراف الجزيرة.
ورغم غنى المياه القطبية الشمالية بثروة سمكية وقشرية متنوعة، والجهود المبذولة للحفاظ على استدامة الموارد البحرية، فإن العديد من التحديات الاقتصادية والاجتماعية لا تزال تؤرق الصيادين المحليين وتفرض عليهم واقعا قاسيا ومتقلبا.
رحلة الصيد.. ما وراء الشباك
زارت الجزيرة نت الصيادين أفياجا غويلسن ويورغن هنريكسن للتعرف على تفاصيل يومهم العملي في أكبر جزيرة في العالم، ورافقتهم في جولة داخل مصنع لتحضير طعوم الصيد، ومراحل التجهيز الأخرى التي تسبق انطلاق الرحلة.
يقول هنريكسن، البالغ من العمر 42 عاما: “في الصباح الباكر، ندخل المضيق البحري. يستغرق الأمر من نصف ساعة إلى ساعة حسب الأحوال الجوية، فالأمواج قد تكون عاتية أحيانا. وبعدها، تستمر عملية الصيد نحو ساعتين قبل أن نعود مجددا إلى العاصمة نوك”.
ويضيف مبتسما: “من المهم ارتداء ملابس مناسبة، فكلما زادت سرعة القارب، كلما انخفضت درجة الحرارة. إذا أبحرت بسرعة 20 عقدة مثلا، فستشعر كأن الحرارة انخفضت إلى 30 درجة تحت الصفر”.
يرتدي الصيادون بدلات نجاة خاصة تحتوي على مواد تساعد الجسم على الطفو في حال السقوط في الماء، وهي مصممة لمقاومة البرد الشديد. ورغم أن الصيد لطالما كان حكرا على الرجال، بدأت النساء تدريجيا في الانخراط، خاصة ضمن الطواقم العاملة على السفن الكبيرة.
وتقول أفياجا غويلسن (29 عاما)، التي عملت لسنوات في مصنع أسماك: “أحب هذه المهنة رغم صعوبتها. اليوم أعرف الكثير عن الصيد وأجده سهلا حين أكون في البحر، حتى وإن بدا شاقا للبعض”.
صعوبات ميدانية متراكبة
تتغير أنماط الأسماك المتوفرة في مياه غرينلاند بحسب درجة حرارة المحيطات وتغير التيارات المائية، مما يؤثر على توزيع وهجرة أنواعها. هذا التغير المستمر يجبر الصيادين على التكيف باستمرار والبحث عن مواقع جديدة للصيد.
يرى هنريكسن أن فصل الصيف مثالي لصيد بعض الأنواع، بينما يكون الشتاء مناسبا لأنواع أخرى، مثل سمك الهلبوت، الذي يصبح أكبر حجما في البرد.
ومع ذلك، ليس الأمر دائما بهذه السهولة. ففي فبراير/شباط الماضي، تسببت درجات الحرارة المرتفعة نسبيا في تكسر كتل ضخمة من الجليد داخل مضيق نوك، مما جعل الإبحار شبه مستحيل.
“في رحلة صيد واحدة، قد نكسب نحو 7 آلاف كرونا دانماركية (حوالي ألف دولار)، لكن الطقس ليس دوما في صالحنا”.
الطقس المتقلب والجليد العائم في الشمال من أبرز التحديات التي تجعل التنقل في البحار خطرا وغير مضمون. فقد يتحول الهدوء فجأة إلى عاصفة ثلجية أو رياح عاتية. وتؤثر التغيرات المناخية كذلك على مواسم الصيد، حيث تؤدي إلى تقصيرها أو حتى إلغائها، كما يحدث مع صيد الشار القطبي في الأنهار المتجمدة.
ثروة غنية ولكن مراقبة
تزخر مياه غرينلاند بتنوع بحري فريد، من أبرز أنواعه: الروبيان الشمالي (الأكثر تصديرا)، سمك القد الأطلسي، الهلبوت، السلمون الأطلسي، القد الغرينلاندي، الوقار الأحمر، والشار القطبي.

ومع هذا التنوع، تخضع معظم مصايد الأسماك لأنظمة رقابة صارمة، حيث تفرض الحكومة حصصا سنوية للصيد، وتُلزم الصيادين بالحصول على تراخيص. ويقول هنريكسن: “سنصطاد الكات فيش والهلبوت، لكن هناك قيود حكومية تُصعّب الحصول على ترخيص لصيد الهلبوت، خاصة على الصيادين الأكبر سنا”.
على طول الساحل الغربي، يرسي الصيادون شحناتهم في أكثر من 40 مصنعا تابعا لشركة “رويال غرينلاند”، حيث تُوزن الأسماك ويُدفع للصيادين بعد ساعات قليلة. معظم هذه الشحنات تُصدّر لاحقا إلى الدانمارك.
ويشرح أحد الصيادين، واقفا قرب مخازن الشركة: “نُسلّم الأسماك صباحا، وبعد 4 أو 5 ساعات نتلقى مستحقاتنا. لكن ما نصطاده يُشحن فورا إلى أوروبا”.
تُبرز الشركة على موقعها أنها تمتلك أكثر من 250 عاما من الخبرة في صيد وتصنيع المأكولات البحرية من مياه شمال المحيط الأطلسي والمحيط المتجمد الشمالي، وتُشدد على الجودة العالية لمنتجاتها.
علاقات دولية.. بين التعاون والاحتكار
منذ انسحاب غرينلاند من المجموعة الاقتصادية الأوروبية عام 1985، أقامت الجزيرة علاقات ثنائية مع الاتحاد الأوروبي في مجال مصايد الأسماك.
ما تنص عليه الاتفاقية:
- يتيح الاتفاق لسفن الاتحاد الأوروبي الصيد في مياه غرينلاند مقابل مساهمة مالية.
- يُسمح لمنتجات غرينلاند البحرية بالدخول إلى السوق الأوروبية معفاة من الرسوم الجمركية.
- يتم تنفيذ الاتفاقية بموجب بروتوكول حديث للفترة ما بين 2025 و2030.
تساهم أوروبا بمبلغ سنوي قدره 17.3 مليون يورو، منها:
- 14.1 مليون يورو مقابل حقوق الصيد.
- 3.2 ملايين يورو لدعم قطاع الصيد محليا.
ويتم تبادل نسبة كبيرة من الحصص التي تحصل عليها أوروبا من غرينلاند مع النرويج، بينما تُخصص البقية لدول مثل:
- ألمانيا (لصيد الهلبوت، القد، والسمك الأحمر)
- الدانمارك
- فرنسا (خاصة للروبيان)
رغم أن حكومة غرينلاند تحتفظ حاليا بالتحكم في إصدار التراخيص وتحديد الحصص، فإن الدانمارك، باعتبارها القوة الاستعمارية السابقة، لا تزال تتعاون معها في بعض الملفات البيئية والدولية.
“صيدنا يُباع بأضعاف مضاعفة في أوروبا”
لكن يبقى السؤال المطروح: هل يستفيد الصيادون المحليون كما يجب من عملهم المضني في هذا القطاع المحوري؟
يجيب هنريكسن بمرارة: “غير مسموح لنا بصيد السلمون بسبب القيود، وعندما نصطاد سمك السلور منزوع الرأس، يُباع للدانمارك بـ17 كرونا فقط، بينما يُباع هناك لاحقا بنحو 250 كرونا”.
ويختم قائلا: “إنها مبالغ ضخمة يمكن أن نحصل عليها لتحسين حياتنا. آمل أن تغير الحكومة الجديدة هذا الوضع قريبا”.