بغداد– اكتسبت اللقاءات التي عقدها وفد البنك المركزي العراقي في واشنطن زخما كبيرا، حسب الخبراء الماليين والمصرفيين، وسط إدراك أن مخرجات هذه اللقاءات ستكون الأهم ضمن سلسلة من التدقيقات البنكية والمالية، بشأن آلية نقل الأموال بين المصارف العراقية والخارج، لتلافي عقوبات أميركية إضافية وخيمة، سينعكس صداها على الشارع العراقي في ظل تخوفات من تأثيرها على دفع الرواتب للموظفين، وعرقلة محتملة للمعاملات التجارية بالدولار.
وقال البنك المركزي، في بيان، “إن اللقاءات تمخضت عن اتفاق مع شركائه الدوليين سيرى النور نهاية العام الحالي، بشأن إنهاء العمل بالمنصة الإلكترونية للتحويلات الخارجية، واستبدالها بالعلاقات المصرفية المباشرة، وتوسيع شبكة المصارف الدولية المراسلة، بمشاركة 13 مصرفا عراقيا، وذلك في خطوة مهمة تهدف إلى تعزيز تنوع العملات وتسهيل عمليات التحويل الدولي”.
وحول تقييم الزيارة ونتائجها، قال الخبير الاقتصادي عبد الرحمن المشهداني، للجزيرة نت، إن وفد البنك المركزي عرض على الأميركيين ملف الإصلاحات النقدية في النظام المصرفي العراقي، بجانب مناقشة العقوبات الأميركية على بعض مصارفه، موضحا أن اللقاءات تناولت الإجراءات التدقيقية التي توصل لها تعاقد البنك المركزي العراقي مع شركتين عالميتين متخصصتين بالتدقيق المالي، وعرض نتائجها على الجانب الأميركي.
وأكد المشهداني للجزيرة نت أن عمل الشركتين يتولى التدقيق في عمل المصارف من جهة، والتدقيق في الحوالات البنكية من جهة أخرى، وأن عملية التدقيق هذه تتطلب 3 أشهر ونصف الشهر، وهي مدة التعاقد مع هاتين الشركتين، وذكر المشهداني نقلا عن محافظ البنك المركزي علي العلاق قوله إن التعاقد مع هذه الشركات كان بناء على نصيحة من الخزانة الأميركية، مؤكدا وقف عمل المنصة الإلكترونية بشكلها الحالي، والاتفاق مع مصارف مراسلة ذات سمعة عالمية مرموقة، للإشراف على تدقيق عمل مصارف بينها الأهلي العراقي والمنصور وبغداد والتجاري العراقي، وتتولى نحو 70% من الحوالات العراقية.
منصة إلكترونية عراقية
وكان البنك المركزي العراقي قد أطلق بداية العام 2023 منصة إلكترونية لشراء الدولار الأميركي ضمن استجابته للمتطلبات الأميركية، وأصبحت المنصة المنفذ الوحيد لمن يريد شراء الدولار الأميركي، لكن إجراءات تلك المنصة، بحسب المعنيين، افتقرت إلى معلومات دقيقة تبين مصادر الأموال التي يتم تداولها، والبضاعة التي يريد التجار استيرادها والمنشأ الذي يُستورد منه، فضلا عن المنفذ الذي ستدخل منه تلك البضاعة.
وقد أشار البنك المركزي إلى أن “الإعلان الجديد جاء بعد التوصل إلى اتفاق حول آليات تنظيم هذه العمليات، حيث سيشمل التعامل بعملات اليورو واليوان الصيني والروبية الهندية والدرهم الإماراتي”، مؤكدا أن “تحديد نطاق عمل شركة التدقيق الدولية /E&Y/ التي ستقوم بمراجعة عمليات التحويل لضمان سلامتها وامتثالها للمعايير الدولية، تعدّ انعكاسا لالتزام البنك المركزي العراقي بتحقيق أعلى مستويات الشفافية والأمان، وتعزيز الثقة في النظام المالي العراقي”.
دُفقة لصالح المصارف العراقية
من جانبه، قال الخبير الاقتصادي زياد الهاشمي، للجزيرة نت، “إن من أهم مخرجات لقاءات واشنطن زيادة الاعتماد على المصارف العراقية التي تملك شبكة بنوك مراسلة رصينة، والبنوك المراسلة هي البنوك التي تعمل كطرف وسيط أو بالنيابة عن المصارف المحلية العراقية لإكمال عمليات التحويل المالي، وضمان مطابقة الحوالات الدولية لمعايير وضوابط التحويل الدولية، مشيرا إلى أن العشرات من المصارف المحلية العراقية التي لا تملك سلسلة بنوك مراسلة خارجية رصينة، تكون مستبعدة من الوصول لدولار الحوالات، بعد إنهاء العمل بشكل كامل بنظام المنصة بدءا من الشهر الأول عام 2025″.
لكن الهاشمي عقّب في حديثه للجزيرة نت قائلا على أن ” تطبيق مخرجات اجتماعات واشنطن بدقة، وإن كان سيرفع مستوى حماية الأموال العراقية من التسرب نحو قنوات غير نظامية، ويحسّن كثيرا مستوى جودة الخدمات المصرفية والتنافسية بين المصارف، إلا أنه قد يتسبب خلال المرحلة الأولى بتضييق عنق زجاجة تدفقات الحوالات، وبالتالي قد يؤثر ذلك على حجم كتلة الدينار العراقي التي يمكن توفيرها للمالية العامة، لتغطية المصاريف التشغيلية الهائلة والمتزايدة سنة بعد أخرى”.
وجاءت هذه التحركات الحثيثة من حكومة بغداد عقب اجتماع مماثل في مارس/آذار 2024، بشأن إعادة النظر في العقوبات الأميركية على 14 مصرفا عراقيا في يوليو/تموز 2023، و4 مصارف أخرى في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، تتبع في أغلبها مؤسسات تابعة لأحزاب سياسية تدعمها شخصيات معروفة، وتُتهم بتهريب أكثر من 100 مليون دولار أسبوعيا إلى 4 دول مجاورة، أبرزها إيران إلى جانب كل من سوريا والأردن وتركيا، بحسب تقارير دولية.
ورغم أن بعض المسؤولين العراقيين قللوا حينها من تأثير الخطوة الأميركية على الاقتصاد العراقي، مستشهدين بإحصاءات داخلية أظهرت أن البنوك الأربعة عشر مجتمعة تمتلك 1.29% فقط من إجمالي الأصول المصرفية في العراق، من بين 46 مصرفا تجاريا آخر، فإن مسؤولين أميركيين أشاروا إلى تراجع ملحوظ في إجراء التحويلات المالية في الأشهر الأخيرة من قِبل المصارف المتهمة بممارسة الاحتيال المصرفي على تحويل الأموال، وتقليل قدرتها على الوصول إلى الدولار، ما أدى لخفض كبير في قيمة التحويلات اليومية بالدولار عبر تلك البنوك التجارية العراقية.
احتيال مصرفي
ويشير خبراء إلى أن عمليات الاحتيال المصرفية هذه تجري عبر إعادة بيع الدولار، الذي تشتريه المصارف والشركات من البنك المركزي العراقي بالسعر الرسمي، الذي يكون دائما أقل من سعر السوق، وهو ما يوفر لها بعض الأرباح، فعلى مدى عقدين من الزمن، أصبحت تجارة الدولار في العراق مصدرا للفساد المستشري في البلاد.
في حين تجري عمليات احتيال بطُرق جديدة لنقل الدولارات بشكل غير قانوني، بما في ذلك الاستعانة بشركات تحويل أموال غربية وشبكات غير رسمية في الشرق الأوسط لنقل الأموال عبر الحوالات، من أجل تجنب عمليات التدقيق، بينما لجأت صرافات وشركات محلية لاستخدام عشرات البطاقات النقدية المحملة بالدينار في العراق، ثم نقلها إلى الدول المجاورة، حيث يمكن سحب الأموال منها بالدولار.
وهذا ما دفع واشنطن إلى فرض ضوابط أكثر صرامة على التحويلات المالية في البلاد بشكل عام، ما اضطر البنك المركزي العراقي في الأشهر الأخيرة إلى إلزام المصارف بطلب عقود الاستيراد وتذاكر السفر مقابل صرف الدولار لمستحقيه، وهذه الوثائق بدورها تُقدَّم للبنك المركزي ليسمح ثانية لتلك المصارف بالمشاركة في مزاد العملة، وتسبب هذه العقبات بدفع قيمة الدينار العراقي إلى التراجع مقابل الدولار، وارتفاع أسعار السلع المستوردة، متسببة بأزمة استمرت نحو 3 شهور مطلع العام الحالي.
ما لا يعرفه الكثيرون عن قضية التدقيق المصرفي والواقع المالي في العراق أن أغلب العراقيين من المواطنين وحتى التجار يحتفظون بمدخراتهم المالية التي يمتلكونها في منازلهم، ولا يفضلون إيداعها في المصارف، وعندما يريد رجال الأعمال شراء الدولار الأميركي من المصارف، فإن الكثير منهم يدفع بالدينار العراقي نقدا، دون تقديم شهادات أو تحويلات مكتوبة عن مصدر تلك الأموال.
الجدير ذكره في هذا السياق، أنه منذ عام 2003، تم وضع العراق تحت الوصاية الأميركية، ومعها وضعت أموال العراق الناتجة عن بيع النفط والتي تشكل أكثر من 90% من واردات العراق من العملة الصعبة، في بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي، لحمايتها من مطالب التعويض التي قدمتها بعض الدول المتضررة من سياسات النظام السابق الذي حكم العراق قبل عام 2003، وهو ما يعني التحكم الأميركي في عمليات صرفها.