يبذل الرئيس الأميركي دونالد ترامب قصارى جهده لإعادة تشكيل النظام المالي العالمي وفقا للمصالح الأميركية، مُدّعيا أنه نظام غير عادل ويعمل ضد الولايات المتحدة، لكن وسط هذه “الفوضى الاقتصادية”، ترى أوروبا فرصة لتعزيز مصالحها المالية والاقتصادية، وفق تقرير نُشر في مجلة بوليتيكو للكاتب جاكوبو باريغازي.

وخلال قمة الاتحاد الأوروبي الأخيرة، حثّت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد القادة الأوروبيين على الإسراع في إنشاء سوق مالية موحدة، لجذب المستثمرين الباحثين عن بدائل للنظام المالي الأميركي، وفقا لدبلوماسي أوروبي مطّلع على المحادثات المغلقة.

وكانت رسالتها واضحة لرؤساء الحكومات المجتمعين “توقفوا عن إضاعة الوقت، الآن هو الوقت المناسب للتحرك”.

طموح قديم

ومنذ إطلاق اليورو، سعى صانعو السياسات إلى تقويض هيمنة الدولار على التمويل والتجارة العالميين، الأمر الذي يمنح الحكومة والشركات الأميركية تمويلا بكلفة أقل، وهي ميزة أساسية في ظل التنافس العالمي على رأس المال، لكن حتى الآن، لم ترقَ العملة الأوروبية إلى مستوى التوقعات، وفق تقرير الكاتب.

ونقل التقرير عن المديرة الإدارية العليا للأصول السيادية في وكالة كبرا KBRA للتصنيف الائتماني، جوان فيلدباوم-فيدرا، قولها إن الدولار يُمثل حوالي 90% من المعاملات العالمية، ويظل المعيار الذي تُقاس به العملات الأخرى.

ويوضح تقرير البنك المركزي الأوروبي لعام 2024 أن 60% من السندات الأجنبية مُقوّمة بالدولار، مقابل 20% فقط لليورو، وهي نسبة بقيت ثابتة منذ عقد.

وتعود هيمنة الدولار على المشهد المالي الدولي إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، حين عززت الولايات المتحدة مكانتها من خلال “اتفاق بريتون وودز” عام 1944، الذي وضعها في قلب نظام عالمي لأسعار صرف ثابتة وقابلة للتعديل.

وترسّخت سيطرتها بفضل مكانة الولايات المتحدة كقوة عسكرية عظمى، وحجم اقتصادها وقوته وحيويته، وترسيخ مكانة “وول ستريت” كمركز مالي عالمي. وبحلول عام 1964، بلغت هيمنة الدولار حدا دفع وزير المالية الفرنسي فاليري جيسكار ديستان إلى الحديث عن “الميزة الباهظة” للعملة.

وعلى الرغم من انهيار نظام بريتون وودز، فإن قدرة الولايات المتحدة المستمرة على جذب رؤوس الأموال ضمنت بقاء هذا الامتياز، بل وزيادته، حسب تقرير مجلة بوليتيكو.

سياق| ما سر هيمنة أمريكا اقتصاديا على العالم؟

فوضى في كل مكان

وفق تقرير مجلة بوليتيكو، يُمكن للاتحاد الأوروبي -من الناحية النظرية- أن يُنافس الولايات المتحدة باقتصاده الكبير وقطاعه المصرفي الناضج وسيادة القانون الفاعلة، أما عمليا، فرغم الحديث عن سوق داخلية، لا يزال النظام المالي مُجزأ إلى 27 قطاعا وطنيا مُختلفا.

وحثّت رئيسة البنك المركوزي الأوروبي كريستين لاغارد صانعي السياسات على المضي قدما في التكامل عبر الحدود، وقد يلجأ المستثمرون، المتخوفون من التقلبات السياسية في الولايات المتحدة، إلى الأصول الأوروبية كملاذ آمن.

وبدأت حملة الرئيس الأميركي لفرض الرسوم الجمركية، ومؤشرات استعداده لتجاوز حدود السلطة التنفيذية، تُؤثر على الاقتصاد الأميركي. وتراجع مؤشر ستاندرد آند بورز 500، الأوسع نطاقا، تراجعا حادا، وانخفض بأكثر من 10% منذ تولي ترامب منصبه. كما تشهد ثقة أصحاب الأعمال الصغيرة تراجعا مستمرا.

وسط هذه الفوضى -يقول التقرير- ترى أوروبا فرصة لجذب المستثمرين الباحثين عن ملاذات مالية آمنة وأكثر استقرارا.

وفي هذا السياق، أشارت لاغارد إلى انخفاض مشتريات المستثمرين الأجانب من السندات الأميركية، حيث سجلت صافي استثماراتهم تراجعا غير متوقع، بل وتحولت إلى سلبية في يناير/كانون الثاني، ما يعكس اهتزاز الثقة في النظام المالي الأميركي، حسب وصف الكاتب جاكوبو باريغازي.

وأكدت لاغارد أن أوروبا بحاجة إلى تكامل مالي أعمق لتعزيز جاذبيتها للمستثمرين، معتبرة أن الظروف الاقتصادية الحالية قد تدفع المستثمرين ورؤوس الأموال نحو البحث عن بدائل آمنة بعيدا عن الدولار.

عقبات أمام صعود اليورو

رغم الفرصة التي تتيحها “فوضى ترامب” لا تزال هناك عقبات كبيرة أمام صعود اليورو، فالاتحاد الأوروبي، رغم اقتصاده القوي وقطاعه المصرفي الناضج، يعاني من نظام مالي مُجزّأ بين 27 دولة، ما يُضعف قدرته على منافسة النظام الأميركي الموحد.

كما يمثل حجم وعمق سوق الديون الأميركية تحديا رئيسيا، إذ تبلغ قيمة سندات الخزانة الأميركية 28.6 تريليون دولار، ما يجعلها أداة رئيسية في التداول، فضلا عن كونها ركيزة أساسية في النظام المالي العالمي، كما تقول مجلة بوليتيكو.

في المقابل، لا تمتلك أوروبا نظام ديون مماثلا، حيث لا تزال إصدارات السندات المشتركة للاتحاد الأوروبي غير منتظمة، ويبلغ إجمالي ديون الاتحاد الأوروبي المشتركة 578 مليار يورو فقط، وهو رقم ضئيل مقارنة بحجم الديون الأميركية.

 

لكن محللين يتفقون على أن أي حديث عن استبدال نظام الدولار سابق لأوانه، ونقل تقرير مجلة بوليتيكو عن الرئيس العالمي للاقتصاد الكلي في بنك ING، كارستن برزيسكي، قوله “على مدى العقود الماضية، شهدنا عدة مناسبات أُعلن فيها نهاية الدولار. لكن ذلك لم يحدث قط”.

ومن بين العقبات التي أشار إليها معظم المحللين حجم وعمق سوق ديون الحكومة الأميركية، ويبلغ إجمالي قيمة سندات الخزانة الأميركية المتداولة 28.6 تريليون دولار.

ويعمل الدين الأميركي في الأسواق المالية بشكل مشابه إلى حد ما لطريقة عمل النقد بالنسبة للأفراد العاديين، ويستخدم البنوك والمستثمرون سندات الخزانة للتداول فيما بينهم وللاحتفاظ بها كضمانات، ويُعد الدين ركيزة أساسية في النظام المالي.

تخفيض قيمة الدولار

وأشارت تقارير إعلامية إلى أن فريق ترامب يدرس خطة لإعادة تشكيل النظام المالي العالمي، عبر خفض قيمة الدولار بشكل متعمد بالتعاون مع الحلفاء، فيما يُعرف بـ”اتفاق مارا-لاغو”، بهدف تعزيز تنافسية الصادرات الأميركية، حسب ما أورد تقرير مجلة بوليتيكو.

لكن لاغارد قللت أهمية هذه الفكرة، ووصفتها بأنها مجرد “تكهنات غير مؤكدة”، وحذرت في الوقت ذاته من أن أوروبا يجب أن تكون مستعدة لأي سيناريو محتمل.

شاركها.
Exit mobile version