ما يحدث الآن لم يُظهر لصانع القرار الإسرائيلي اليوم التالي للحرب، ولو انتهت الحرب ما هي الصورة التي سيكون عليها قطاع غزة. من الناحية السياسية لا تكون دولة الاحتلال قد غيّرت شيئًا لذلك، فالاحتلال يحيل إنجازاته إلى فترة مستقبلية، فهو لا يتحدث عن الواقع بقدر ما يتحدث عما ستُقدم عليه إسرائيل في مرحلة ما بعد الحرب.

وهذا بالمناسبة جزء من سياسية نتنياهو الحالية، في محاولة إطالة أمد الحرب إلى أكبر قدر ممكن، لعله يحصل على هدف يمكنه من العودة للمجتمع الإسرائيلي بادعاء أنه حقق إنجازًا ما.

المستوى العسكري يريد أن يلقي الكرة في ملعب المستوى السياسي، وهنالك جدال بين المستويين السياسي والعسكري: من الذي يتحمل مسؤولية فشل تحقيق الأهداف ومسؤولية 7 أكتوبر؟ لذلك عندما يُقدم على هذه الخطوة فهو يريد أن ينتقل إلى خطوة أخرى؛ بمعنى أنه لا بد من تجاوز هذا الحديث لأنه لم يعد مفيدًا إسرائيليًّا الحديث عن من الذي يتحمل هذه المسؤولية، وهذا الفشل، وإنما من الذي يتحمل مسؤولية إدارة الشأن الإسرائيلي الآن، سواء بمجريات الحرب، أو بمجريات العملية التفاوضية.

وأعتقد أن هذا الأمر سيدفع الإسرائيليين إلى مراجعات على المستوى السياسي، من حيث المضيّ قُدمًا في المشروع الذي قد بدؤوه بوضع الأهداف، أو بوجود رؤى أخرى من خارج المؤسسة الرسمية الإسرائيلية تعلن عن وجوب تجديد وتحديث أهداف أخرى.

الجيش الإسرائيلي يغوص في مستنقع حرب غزة - تصوير المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي للاستعمال الحر لوسائل الإعلام)
الجيش الإسرائيلي يغوص في مستنقع حرب غزة – تصوير المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي للاستعمال الحر لوسائل الإعلام)

في اعتقادي أن رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو يحاول تقديم رؤية لمستقبل الفلسطينيين بشكل عام، وقطاع غزة تحديدًا، بالعديد من الأفكار والأطروحات المختلفة، إلا أنه لغاية هذه اللحظة هناك ضبابية لهذه الرؤية. لأنه كلما سئل عن المستقبل يقول إنه مقدم على سلطة أمنية، ويتم التشبيه في بعض الأحيان بنموذج الضفة الغربية التي ما زال يمارس فيها نفوذًا أمنيًّا واسعًا.

وهذا فعليًّا نموذج فاشل؛ لأنه حتى بالتعامل مع الضفة لم يستطع أن يحقق الأمن للمجتمع الإسرائيلي، بالرغم من التنسيق الكامل مع عدة جهات وأهمها الأمن الفلسطيني، وهذا واضح من خلال تنامي البؤر النضالية في أكثر من ساحة بالضفة قبل الحرب على غزة بعامين.

لذلك أعتقد أن نتنياهو اليوم ليس بمكان يخوله وضع شكل للمستقبل السياسي للفلسطينيين ما دامت المقاومة صامدة، ولا يبدو عليها الإنهاك رغم أننا في الشهر الرابع للحرب.

بالطبع مايزت هذه الحرب بشكل كبير بين مشروعين: مشرع المقاومة كطريق للتحرر، ومشروع المفاوضات المتبناة من السلطة، الذي لم يقدم للمشروع الوطني إلا زيادة في الاستيطان الذي وصل لغاية اللحظة إلى الاستيلاء على 42% من أراضي الضفة الغربية، و50% من الطرق بالضفة لصالح طرق خاصة بالمستوطنين، و90% من الأحراش والغابات لصالح المستوطنين. فضلًا عن مسار التطبيع السريع جدا الذي حدث بالقفز عن القضية الفلسطينية.

لذلك، حتى رؤية دولة الاحتلال للسلطة أصبحت لا تتعدى سوى شرطي لإسكات كل صوت ممكن أن يتحدث في غير رؤيتها. أما المقاومة في اعتقادي فهي التي أعادت القضية الفلسطينية إلى المسار الذي يجب أن تبقى فيه.

أعتقد أن إسرائيل فقدت قيمتها الإستراتيجية، وفقدت أمنها ومشروعها الصهيوني الذي بدأته بشكل موسع في السنوات الأخيرة، وأن طوفان الأقصى الحقيقي لم يبدأ بعد. فطوفان الأقصى سيرتد على خريطة الحكم بإسرائيل، وعلى الوضع الداخلي الإسرائيلي في اليوم التالي لانتهاء الحرب، وسنشهد انشقاقًا وتشرذمًا وخلافات ستدون بالتاريخ الإسرائيلي.

عززت الحرب من فكرة المقاومة، ليس في الشارع الفلسطيني فحسب، وإنما في الشارع العربي والإسلامي. أفقدت المقاومة إسرائيل قوة الردع التي طالما تغنت بها بالإقليم والعالم، وأفشلت محاولات إسرائيل المتتالية عبر سنوات من إعادة هندسة المجتمع الفلسطيني، وأفشلت فكرة تحويل القضية الفلسطينية من قضية مركزية إلى قضية إنسانية مالية.

وأفقدت الاحتلال حرب الصورة وحرب الإعلام. وكشفت زيف الوجه الحقيقي المجرم اللاإنساني للعالم. زرعت المقاومة الفلسطينية الشك لدى المجتمع الإسرائيلي، وأربكت الجيش الإسرائيلي في مجمل آلياته الدعائية التي بناها على مدار 76 عامًا، بأنه قوة ردع تقصي خصومها في أيام معدودة، وأعادت المقاومة فكرة خطر الوجود والكينونة لدولة إسرائيل.

شاركها.
Exit mobile version